حسني غنيم يعود الى صفد

على جواز سفره الامريكي المكتوب عليه: مكان الميلاد "صفد - فلسطين١٩٤٤" عاد السيد حسني غنيم الى فلسطين لأول مرة بعد ٧١ عاماً.. 
بدأت القصة قبل شهور عندما تواصلت معي ابنته وأخبرتني نيتها القدوم الى فلسطين لتجد منزل والدها في صفد الذي طرد من مدينته بالقوة عام ١٩٤٨ومشى مع عائلته سيراً على الأقدام نحو الحدود اللبنانية إلى أن وصلوا قرية بنت جبيل في جنوب لبنان، فاستضافتهم عائلة درزية أقاموا في منزلها لمدة ٦شهور قبل أن يتوجّهوا إلى الشام. 
بعد ٣٠ عاماً في دمشق سافر حسني غنيم ليكمل تعليمه الجامعي في اسبانيا وانتهى به المطاف في الولايات المتحدة.. وها هو اليوم يعود إلى فلسطين لأول مرة بعد هذه الرحلة الطويلة. 
آلية البحث عن المنزل لم تكن سهلة، تم الاستناد على خريطة قديمة رسمها مهجرو صفد لمدينتهم، مئات الاسماء والتفاصيل تطلبت بحثاً مضنياً قبل مجيء حسني غنيم بأسابيع. تواصلت مع سيدة فلسطينية مقيمة في الدوحة اسمها رنا خليفة وأصلها من صفد، تحفظ كل زاوية في صفد، كانت كلما أرسلت إليها صورةً عشوائية من هناك تقول لي "هذا منزل فلان وبجانبه المدرسة وعلى الشارع السفلي منزل فلان المقيم حالياً في الأردن" وسرعان ما تزودني بصور أخرى وخرائط.. صدقاً لم أجد احداً يحفظ تفاصيل التفاصيل في صفد كما رنا خليفة. 
بعد أيام من التواصل سألتها عن المدة التي سكنتها في صفد لتعرف كل هذه التفاصيل.. وهنا كانت المفاجأة! 
رنا من الجيل الثاني للنكبة ولم تكن في فلسطين يوماً ولم تطأ اقدامها صفد إطلاقاً بل ورثت كل ذلك من والدتها رقية التي ولدت في صفد عام ١٩٢٤، فاجتهدت لتعرف مدينتها أكثر فأصبحت مرجعاً وهي في الشتات.. وهنا يجب التوقف على ما يزرعه الآباء والأجداد في ابنائهم وليس فقط ان تعرف انك من قرية مهجرة في فلسطين وانتهى!

انطلقنا برفقة حسني غنيم من حيفا متوجهين الى صفد، حاول أن يخفي توتره وارتجاف يديه كلما اقتربنا من الشمال ببعض الابتسامات والمزاح، إلى أن وصلنا مشارف مدينته وباللحظة التي رأينا فيها أول يافطة ( صفد "تسفات" ) صمتنا جميعاً وانهار حسني باكياً " يا الله ماني مصدق ماني مصدق اني هون".

وصلنا الى المدينة، تكاد تكون من أجمل مدن فلسطين الجبلية، منظر الجرمق والإطلالة الساحرة على الطبيعة وسفوح التلال من بين المنازل تسحر العقل، لكنها حزينة.. بيوتٌ عربية، مآذن وكنائس ونقوش باللغة العربية ومساجد تحولت إلى معارض فنية.. حارة السوق، حارة الجورة، حارة الاكراد، حارة النصارى، حارة الصواوين وقدورة وغيرها كلها تسكنها عائلات يهودية متزمتة.. 
شرعنا بالبحث عن المنزل، َيذكُر السيد حسني أن عائلته امتلكت منزلين، الأول على الشارع أسفل القلعة والآخر في نهاية حارة السوق.. للأسف هُدم منزلهم الأول ومنازل أخرى بالحي لتحل مكانهم بناية ضخمة قبيحة من عدة طوابق..
أكملنا لنجد البيت الثاني الذي بنته العائلة بعد تحسّن أوضاعها المادية ليكون منزلاً مُطلاً على التلال وبعيداً عن الاكتظاظ، لم يكد ينتهي البناء لتسكن العائلة في منزلها الجديد فسقطت صفد في ١١ أيار ١٩٤٨.
ها نحن الآن أمام منزلين تداخل بهم البناء يعود أحدهم لعائلة غنيم.. 
ما يذكره حسني أن حجر المنزل كان أبيضاً ساطعاً ومن نوافذه يمتد نظرك على جليل فلسطين.. 
خرج الاسرائيلي المقيم في المنزل على الضوضاء بالقرب من مدخل المنزل، تفاجأ ثمّ رحّب! 
أخبرناه عن حسني ومنزله وعودته فأجاب: 
" أشعر بالأسى لما حصل لك، تبدو شخصاً طيّباً.. انت مدعو لتزور المنزل متى تشاء. لا اريد أن اتكلم بالسياسة ولكن حصلت حربٌ هنا وانتصرنا.. هل يجب أن اكون آسفاً أننا انتصرنا.. انه تاريخ وهكذا كُتب والمنزل أصبح ملكي الآن"

انتهى

#كنا_وما_زلنا #صفد #فلسطين